وهو السعي بين الصفا والمروة بنية العبادة لقوله تعالى:
( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)
[البقرة: 158].
فتصريحه تعالى بأن الصفا والمروة من شعائر الله يدل على أن السعي بينهما أمر حتم لابد منه لأن شعائر الله عظيمة لا يجوز التهاون بها، ولقول النبي لأبي موسى رضي الله عنه
: «طف بالبيت وبالصفا والمروة»
رواه مسلم.
ولقوله
: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي»
رواه أحمد وله طرق يقوي بعضها بعضًا.
شروط السعي:
الأول: النية لقوله :
«إنما الأعمال بالنيات»
فكان لابد من نية العبادة بالسعي، طاعة لله تعالى
وامتثالًا لأمره جل وعلا.
الثاني:
إكمال العدد سبعة أشواط ذهابه سعية ورجوعه سعية يبدأ بالصفا ويختم بالمروة فلو نقص الساعي شوطًا أو بعض الشوط لم يجزئه، إذ حقيقته متوقفة على تمام أشواطه.
الثالث:
وقوع السعي بعد طواف صحيح، سواء كان الطواف ركنًا، كطواف الإفاضة، أو سنة كطواف القدوم.
وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم أن السعي لا يصح إلا بعد طواف، لأن النبي لم يسع في حج ولا عمرة إلا بعد الطواف، وقد قال: لتأخذوا عني مناسككم. فعلينا أن نأخذ ذلك عنه.
واحتج من قال بصحة السعي قبل الطواف: بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن الشيباني عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك،
قال: خرجت مع النبي حاجًا فكان الناس يأتونه، فمن قال: يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف أو قدمت شيئًا أو أخرت شيئًا، فكان يقول: «لا حرج ولا حرج إلا على رجل اقترض عرض
رجل مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك».
قال النووي في شرح المهذب في حديث أسامة بن شريك هذا بعد أن ذكر صحة الإسناد المذكور: وهذا الحديث محمول على ما حمله عليه الخطابي وغيره وهو أن قوله «سعيت قبل أن أطوف» أي سعيت بعد طواف الإفاضة، والله تعالى أعلم.
سنن السعي:
الأول:
الموالاة بينه وبين الطواف بحيث لا
يفصل بينهما بدون عذر شرعي.
الثاني:
الوقوف على الصفا والمروة للدعاء فوقهما ويكبر ثلاثًا،
لحديث جابر: فلما دنا من الصفا قرأ:
( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)
، ابدأ بما بدأ الله به، فرقي الصفا حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك، ثم قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا".
رواه مسلم.
ولا يرفع يديه على الصفا والمروة: كما يكبر للصلاة، بل يرفع يديه كرفعهما للدعاء لحديث أبي هريرة رضي الله عنه:
فلما فرغ ـ النبي ـ من طوافه
(أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع
يديه فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء أن يدعو )
رواه مسلم».
الثالث:
الخبب وهو سرعة المشي بين الميلين الأخضرين على حافتي الوادي القديم الذي خبت فيه هاجر أم إسماعيل عليهما السلام وليس هو الركض كما يفعله بعض الناس.
الرابع:
أن يستحضر الساعي في نفسه ذله وفقره وحاجته إلى الله تعالى في هداية قلبه وتزكية نفسه وإصلاح حاله.
الخامس:
الإكثار من الذكر والدعاء والصلاة على النبي ، لحديث:
«إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا
والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل»
رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
تنبيهات
الأول:
من واجبات الحج والعمرة، طواف الوداع ويرخص للحائض والنفساء في تركه، لحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله :
«لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت»
رواه مسلم.
وعنه أيضًا:
«أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت
إلا أنه خفف عن الحائض»
متفق عليه.
ولحديث الحارث:
«من حج هذا البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت»
رواه أحمد والترمذي.
ومن أخّر طواف الإفاضة إلى حين سفره كفاه عن طواف الوداع، إلا أنه عند الطواف لا ينويه لهما جميعًا، أي لطواف الإفاضة وطواف الوداع، بل ينويه عن طواف الإفاضة،
لأنه ركن ويكفيه عن طواف الوداع.
الثاني:
شد الرحل من مكة إلى المدينة لزيارة قبر النبي r منهي عنها بل لا يجوز للمسلم أن يسافر من أجل القبور ولا شد الرحل للصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة، فإن من الناس من يشد الرحل في رمضان لصلاة التراويح وهو منهي عنه إلا للمساجد الثلاثة فإنه مما يثاب عليه ويؤجر، لقول النبي :
«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد
الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»
متفق عليه.
لكن يستحب السفر لزيارة مسجد النبي ،
وأما زيارة القبور بدون شد رحل فمستحبة.
الثالث:
المال الذي يجعل لمن ينوب في الحج عن ميت أو حي فهذا إن أخذه المنوب ليحج لاشتياقه للبيت ومشاعر الحج وللعمل الصالح لما فيه من زيادة الفضل فهذا هو الذي تصح نيابته وحجه.
وأما الذي لا يحج إلا من أجل المال فهذا لا تصح نيابته ولا يصح حجه لأن عمله باطل ولا ثواب له في الآخرة لأنه قصد بعمله الدنيا، ومن قصد بعمله الذي يبتغي به وجه الله الدنيا، فليس له في الآخرة من نصيب، وأكثر من يسافر لأخذ الوصايا بالحج إنما قصدوا هذا الثاني، والله أعلم بما تنطوي عليه الضمائر من الإرادات والنيات والمقاصد.
الرابع:
التكبير المقيد يبتدئ من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، عقب الصلوات المكتوبات.
والتكبير المطلق يبتدئ من أول عشر ذي الحجة، وهي الأيام المعلومات، وينتهي بانتهاء أيام التشريق وهي الأيام المعدودات لقوله تعالى:
( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ)
[البقرة: 203].
والمخاطب بهذا الذكر الحاج وغير الحاج، وفي الحديث المرفوع: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل»
رواه مسلم.
وقال البخاري:
"وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات،
وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميعًا".
فاتقوا الله عباد الله وتوبوا إليه، واذكروه واستغفروه كثيرا، وكبروه في هذه الأيام المعلومات، وصونوا أعيادكم عن كل ما لا يجوز، احفظوها رحمكم الله عن كل ما يرديكم، واعمروا أيامها بالذكر والحمد والشكر، لتفوزوا في الدنيا والآخرة. جعلني الله وإياكم ممن إذا ذكر تذكر وأناب وإذا دعي إلى طاعة الله سمع وأجاب.
وهذا ونسأل المولى جل وعلا أن يمنحنا الفقه في الدين ويعلمنا التأويل ويجعلنا من العلماء العاملين وذرياتنا وذرياتهم إلى يوم الدين، كما نسأل سبحانه وتعالى أن يمن علينا بالعفو والعافية والستر والمغفرة والرحمة وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
مشروعية الأضحية عن الحي والميت
اعملوا أن الأضحية سنة مؤكدة، على كل من قدر
عليها من المسلمين المقيمين والمسافرين،
لقوله تعالى:
( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)
[الكوثر: 2]
وقول الرسول :
«من ذبح قبل الصلاة فليعد»
متفق عليه.
وقول أبي أيوب الأنصاري:
كان الرجل في عهد رسول الله يضحي
بالشاة عنه وعن أهل بيته. رواه الترمذي.
ولا يعني هذا أنه لا يزاد على شاة وإنما هذا هو المتأكد الذي لا ينبغي أن يترك، وأما من رغب في الزيادة وهو مستطيع وأراد أن يخص والديه أو غيرهما بأضحية أو أكثر سواء
كانا حيين أو ميتين فله ذلك، لأنه عمل صالح.
ويشهد لسنية الأضحية وما فيها من الفضل العظيم،
قول الرسول :
«ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب
إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة
بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن الدم ليقع من الله
بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفسًا»
رواه الترمذي وابن ماجه.
[ وقوله ، وقد قالوا له ما هذه الأضحية؟
قال: «سنة أبيكم إبراهيم» قالوا:
فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال:
«بل شعرة حسنة» قالوا:
فالصوف يا رسول الله؟ قال:
«بكل شعرة من الصوف حسنة»
رواه ابن ماجه.
ومن الحكم في مشروعية الأضحية:
التقرب إلى الله تعالى بها إذ قال سبحانه:
( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ)
[الأنعام: 162، 163].
والنسك هنا هو الذبح تقربًا إلى الله تعالى.
ومنها: إحياءً لسنة إمام الموحدين إبراهيم عليه الصلاة
والسلام إذ أوحى الله إليه أن يذبح ولده إسماعيل.
ثم فداه بكبش فذبحه بدلًا عنه،
كما قال تعالى:
( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)
[الصافات: 107].
ومنها: التوسعة على العيال يوم العيد
وإشاعة للرحمة بين الفقراء والمساكين كما قال سبحانه:
( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)
[الحج: 28].
ومنها: شكر الله تعالى على ما سخر لنا من بهيمة الأنعام،
قال الله تعالى:
( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ
سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)
الحج: 36، 37.
ومن أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من بشرته شيئًا.
ولا يجزئ في الأضحية من الإبل إلا ما تم له خمس سنين،
ومن البقر إلا ما تم له سنتان، ومن المعز سنة،
ومن الضأن ستة أشهر.
ويشترط سلامتها من العيوب،
لحديث البراء بن عازب قال:
قام فينا رسول الله فقال:
«أربع لا تجوز في الأضاحي:
العوراء البين عورها،
والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها،
والعجفاء التي لا تنقي»
رواه الخمسة.
وعن علي رضي الله عنه قال:
"أمرنا رسول الله أن نستشرف العين والأذن،
ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة،
ولا خرقاء وثرماء"
رواه الخمسة.
وأما وقت ذبح الأضحية فهو بعد صلاة العيد فلا تجزئ قبله،
ويستمر الذبح إلى آخر أيام التشريق،
وأما الوكالة في ذبحها فجائزة إلا أنه يستحب أن يباشر
المسلم أضحيته بنفسه وكذلك المرأة،
فقد كان أبو موسى يأمر بناته أن يضحين بأيديهن.
ذكره البخاري تعليقًا.
وإن أناب المضحي غيره في ذبحها جاز.
ويستحب أن يوجه الأضحية عند الذبح إلى القبلة لحديث جابر أن رسول الله ذبح يوم العيد كبشين ثم قال حين وجههما:
( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
[الأنعام: 79]،
( إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)
الأنعام: 162، 163
باسم الله والله أكبر، اللهم منك،
ولك عن محمد وأمته»
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
وإذا باشر الذبح وجب أن يقول:
"بسم الله"، وسن أن يزيد:
"والله أكبر اللهم هذا منك ولك،
ويسن أن يأكل من الأضحية ويهدي ويتصدق أثلاثًا".
والذبح هو:
إزهاق الروح بإراقة الدم على وجه مخصوص ويقع
عبادة لله تعالى، إذا قصد الذابح بنحره تعظيم المذبوح له وهو الله جل وعلا، والتذلل له والتقرب إليه وذلك بذبح القرابين لله تعالى، من الضحايا والهدايا وغيرها، عن حي أو ميت من المسلمين.
فهذا الذبح عبادة لله تعالى من أفضل العبادات،
وأجل القربات إلى الله تعالى
لقوله تعالى:
( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي)
أي ذبحي،
( وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي)
أي ما أحيا عليه من العمل الصالح وما أموت عليه
( لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ)
فجمعه سبحانه بين هاتين العبادتين.
أي الصلاة والذبح، مما يدل على فضل الذبح لله
وأنه من أفضل العبادات والقربات، كما جمع بينهما بقوله:
( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)
أي أخلص لربك الصلاة ونحر البدن
ونحوها على اسمه وحده جل وعلا.
فالصلاة أفضل العبادات البدنية والذبح أفضل العبادات المالية وسواء أهدى الثواب لحي أو ميت، وإنما كان الذبح أفضلها لأنه يجتمع فيه أمران.
الأول:
أنه طاعة لله تعالى.
الثاني:
أنه بذل ماله وطابت به نفسه، والبذل مشترك في جنس المال كالصدقة بالدراهم عن حي أو ميت، لكن زاد الذبح على غيره في الفضل، لما يجتمع للذابح لله تعالى عند النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص من قوة اليقين وحسن الظن بالله
ما يكون به أفضل من جنس الصدقة.
وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها لمواظبته عليها،
قال ابن عمر رضي الله عنه:
"أقام رسول الله بالمدينة عشر سنين يضحي"
رواه أحمد والترمذي.
وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "التضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها" ولا يعتبر الإكثار من الذبح لله من الإسراف، سواء كان في وقت الأضحية أو في غيره من أيام السنة.
والذبح عبادة مشتملة على تعظيم الله تعالى وإظهار شعائر دينه كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة، ولا يكون أضحية إلا ما ذبح في يوم النحر وأيام التشريق، وما ذبح في غير هذا وقصد به التقرب إلى الله تعالى فهو عبادة، ولا يسمى أضحية.
ولذا كان النبي كثير النحر كثير الصلاة، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي ما غرت على خديجة رضي الله عنها وما رأيتها، ولكن كان النبي يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، وربما قلت له:
كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة. فيقول:
«إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد».
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه ولو زاد في الهدايا والأضاحي فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، فإنه عبادة مقرونة بالصلاة
كما قال تعالى:
( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)
وقال:
(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
ففي كل ملة صلاة، ونسكة لا يقوم غيرهما مقامهما.
ولذا لو تصدق عن دم المتعة والقران بأضعاف أضعاف القيمة لم يقم مقامه، وكذلك الأضحية" انتهى كلامه رحمه الله.
فللمسلم أن يضحي عن أبيه وعن أمه، أو عن غيرهما من المسلمين والمسلمات سواء الأحياء والأموات، ويخص من يشاء منهم بأضحية، والدليل على ذلك هو أن النبي r خصص أهل التوحيد من أمته بأضحية، وليس في الحديث أنه خصص بها الأحياء دون الأموات، بل هو مطلق يدل بمفهومه على جواز التضحية عن الغير من الأحياء أو الأموات.
كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي r كان إذا أراد يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أملحين أقرنين موجوأين، فذبح أحدهما عن أمته ممن شهد لله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ، والآخر عن محمد r وآل محمد، رواه الإمام أحمد، فهذا مما يدل دلالة واضحة على مشروعية التضحية عن الغير وتخصيصه بها.
وأما كون النبي r لم يضح عن عمه حمزة ولا عن غيره، فهذا لا يدل على عدم مشروعية التضحية عن الغير.
أولًا: لأنه قد شرعت التضحية عن الغير في الحديث المتقدم.
ثانيًا: أن هناك كثيرًا من الأعمال لم يفعلها النبي r عن عمه كالصدقة والحج والعمرة والوقف وغير ذلك، فلو كان هذا دليلًا لعدم التضحية عن الغير مع وجود الدليل
لمنع من كثير من أعمال البر والإحسان.
ولكن ليس هذا بدليل عند أهل العلم، لأنه قد دل دليل على
المشروعية المطلقة، ولأن التضحية عن الغير نوع من الصدقة تصح عن الميت كما دلت على ذلك النصوص، والميت المسلم بحاجة شديدة إلى إهداء الثواب من الأحياء وإهداء الثواب من المسلم إلى الأحياء والأموات سواء كان بأضحية أو بحج أو بعمرة أو بصدقة بمال أو إطعام طعام في شهر رمضان أو غيره كل ذلك جائز ويثاب عليه المهدي والمهدى له من الأحياء أو الأموات عند أهل السنة والجماعة، ولم يخالف في ذلك إلا من كان من أهل البدع.
كما قرره ابن تيمية رحمه الله تعالى، حيث قال:
"أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بدعاء الخلق له
وبما يعمل عنه من البر،
وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام،
وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع،
فمن خالف ذلك كان من أهل البدع".
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره
من الأموات والأحياء جاز،
ويصل ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة".
وقال أيضًا في الكلام على قوله تعالى:
( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)
"وقالت طائفة أخرى: القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره،
وإنما نفى ملكه لغير سعيه،
وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى،
فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه،
وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه،
فإن شاء أن يبذله لغيره وإن شاء أن يبقيه لنفسه،
وهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلا بما سعى
وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجحها" اهـ.
وقال البخاري في صحيحه "باب من مات وعليه نذر".
وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء،
فقال صل عنها، وقال ابن عباس نحوه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى:
"الميت يصل إليه كل شيء من الخير، للنصوص الواردة فيه" ذكره المجد وغيره.
وقال في "الروض المربع": "فأي قربة من دعاء واستغفار وصلاة وصوم وحج وقراءة وغير ذلك، فعلها مسلم وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي، نفعه ذلك.
اهـ. وأما إذا أوصى الميت بأضحية أو أضاحي
في ثلث ماله فإنه يجب على الوصي تنفيذ ذلك،
ولا يجوز له التصدق بثمن الأضحية،
لأنه خلاف السنة وتغيير للوصية المشروعة"