فضل يوم عرفة
حجاج بيت الله الحرام!
اتقوا الله تعالى وتأهبوا فقد زفت المطايا،
وخذوا أهبة التحويل فما إلى البقاء بدار الفناء من سبيل،
وبادروا فلم يبق من متاع الدنيا القليلة إلا القليل.
فهل منا من يعاتب نفسه على التقصير؟
وهل منا من يراقب الله السميع البصير؟
وهل منا من يتفكر في هول ما إليه يصير؟
فسبحان الله!
ما أعم جوده على الأنام! وما أكثر تقصيرهم في
حقه على الدوام!
من ذا الذي عامله بصدق فلم يربح!
ومن ذا الذي سأله تفريج كربه فلم يفرح؟
فاشكروه ولن تحصوا له شكرًا،
واتقوه حق تقاته سرًا وجهرًا،
وشمروا لعبادته عن ساق،
ونافسوا على الوفود إلى حج بيته فله
الحديث يساق.
الركن الثاني: الوقوف بعرفة:
وهو الوقوف أو الحضور بعرفة بنية،
يوم تاسع ذي الحجة، ووقته من زوال شمس
يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر،
وأما قبل الزوال من يوم عرفة، فكثير من أهل العلم
على أنه ليس وقتًا للوقوف وفاقًا للأئمة الثلاثة،
واختاره الشيخ وغيره،
لأن النبي عليه الصلاه والسلام
وأصحابه لم يقفوا إلا بعد الزوال، وما قبله لا يعتد به،
وجعلوا هذا الفعل مقيدًا لمطلق حديث عروة بن مضرس،
الذي رواه الخمسة وصححه الترمذي،
عن النبي عليه الصلاه والسلام وفيه:
«من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع،
وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا،
فقد تم حجه وقضى تفثه».
وأما الإمام أحمد فإنه يرى أن يوم عرفة كله
وقتًا للوقوف إلى طلوع فجر يوم النحر
للحديث الذي تقدم، حديث عروة والله تعالى أعلم.
ويوم عرفة له فضائل متعددة:
منها: أنه يوم إتمام الدين وإكمال النعمة،
قال الله تعالى:
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا )
[المائدة: 3].
ومنها: أنه عيد لأهل الإسلام، هو ويوم النحر،
وأيام التشريق، لما روى عقبة مرفوعًا:
«يوم عرفة، ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام»
رواه الخمسة إلا ابن ماجه.
ومنها: أنه موقف عظيم، تسكب فيه العبرات،
وتقال فيه العثرات، وهو أعظم مجامع الدنيا.
فإذا فرّغ الحاج قلبه وطهره، وطهر جوارحه،
واجتمعت الهمم وتساعدت القلوب في هذا المجمع العظيم،
وقوي الرجاء وعظم الجمع، كان ذلك من أسباب القبول،
فإن تلك أسباب جعلها الله مقتضية لحصول الخير،
ونزول الرحمة.
ومنها: أنه يوم ترجى فيه إجابة الدعاء.
ومن آداب الدعاء:
أن يرفع الحاج يديه، قال ابن عباس:
«رأيت النبي عليه الصلاه والسلام بعرفات يدعو
ويداه إلى صدره، كاستطعام المسكين».
رواه أبو داود.
ويحرص في هذا الموقف على تفريغ الباطن والظاهر
من كل مذموم وليكن على طهارة في هذا المشعر العظيم،
ويجتهد أن يبكي، فإن لم يقدر على البكاء، فليتباك بالتضرع والدعاء.
وليحذر الحاج من الاختيال والتعاظم في
هذا الموقف وغيره، فإنه من موانع الإجابة
قال تعالى:
( إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)
[لقمان: 18]
وروي في ذلك حديث.
ومن الحجاج من يفرط في هذا الوقت الثمين،
وذلك باشتغاله بالقيل والقال مع رفقته،
أو بالأكل والشرب الزائد عن الحاجة.
ومنهم من يجعل اجتهاده في الذكر والدعاء
في أول النهار، فإذا جاء وقت الذكر والدعاء
والتضرع وهو آخر النهار من يوم عرفة،
فإذا هو قد تعب وسئم وترك الذكر والدعاء.
ومنها:
أنه يشرع صوم عرفة لغير حاج بها.
لحديث:
«صيام يوم عرفة احتسب على الله أن
يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده»
رواه مسلم.
أما الحاج،
فإنه لا يستحب له أن يصوم يوم عرفة بعرفة،
بل يكره
«لنهيه r عن صوم يوم عرفة بعرفة»
رواه أبو داود وصححه الحاكم.
ومنها: أن الدعاء في يوم عرفة أفضل من غيره لحديث:
«خير الدعاء دعاء يوم عرفة،
وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»
رواه مالك في الموطأ والترمذي.
ومن فضائله: قوله عليه الصلاه والسلام:
«ما من يوم أكثر من أن يعتق الله
فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة
وإنه ليدنو يتجلى، ثم يباهي بهم الملائكة،
فيقول: ما أراد هؤلاء»
رواه مسلم.
ومنها: أنه ما رؤي الشيطان يومًا هو فيه أصغر
ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة،
وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة،
وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما أرى
يوم بدر، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة.
وقد روي في ذلك حديث رواه مالك في الموطأ
وهو مرسل، ووصله الحاكم في المستدرك عن أبي الدرداء.